الشيخ محمد سعيد رسلان

الأحد، 17 مارس 2013

السبيل إلى العزة والتمكين


السبيل إلى العزة والتمكين
الشيخ عبد المالك رمضاني الجزائري

بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا}
يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما}
أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله عز وجل، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
معشر المسلمين، لا يخفى عليكم ما يعيشه المسلمون اليوم من محن، وما تعترضهم من عقبات، وما يصيبهم من نكبات.
إن لهم أعداء لا يرحمونهم ولا يغفلون عنهم، وتلك سنة الله في خلقه، أن يمتحن الله الطيب بالخبيث، ليستخلص من صف المسلمين صَفوتَه، وليجتبي منه خيـرته، ذلك لأنه بالامتحان يعرف من يستحق الإكرام، ممن يستحق الامتهان، قال الله تعالى: { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب}.
ومما يعقد المؤمن قلبه عليه، أن الله تعالى يَعِدُ ولا يخلف، ولا ريب أن مدة الامتحان قد طالت، والمسلمون هم المسلمون، وضعفهم هو ضعفهم، وذلهم هو ذلهم، إلا ما شاء الله.
ولا يحسن بي أن أقف بكم طويلا للبكاء على الأطلال، لأن ذلك لا يرمـمها، ولا لتعداد مآسي المسلمين، لأن ذلك لا يعالجها، وإنما الذي يجب على كل مسلم أن يدركه، هو معرفـته لما يجب عليه أن يقوم به، حتى يتخذ الأسباب التي يرتب الله عليها النصر.
فإن من سنن الله أيضا أن لكل مسبَبٍ سببا، وإن الله تبارك وتعالى اشترط على المسلمين الذين ينشدون النصر أن يحققوا شرطين عظيمين، تحتهما شروط، ولكننا نكتفي بهذين.
وذلك لأن الله تبارك وتعالى قد رهن النصر بأهله، وجعل العاقبة الحسنى لأهل التقوى، فليس من عصى الله وخالفه وأشرك به وابتدع في دينه ممن ينـتخب لأن ينصره الله عز وجل، كيف ذلك؟ والله تعالى يقول: {والعاقبة للتقوى}، ويقول : {استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين}، ويقول: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون}
ويفصِّل شيئا من ذلك في بعض آي القرآن الكريم، فيقول الله عز وجل: {وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنـتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا} الآية.
فبان لذي عينين أن الله عز وجل ناصر هذه الأمة، لكن النصر تابع لأهله، ليس بالأماني والتخيلات، قال الله تعالى: {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب}.
وذلك لأن عدو المسلمين لا ينـتصر عليهم لقوته، وإنما ينـتصر عليهم حين يتركهم ربهم، ويكلهم إلى أنفسهم، فهنالك تكون الغلبة لمن غلب.
والله عز وجل لا يظلم عباده مثقال ذرة، فما بالنا نغفل عن واجباتنا، ونسـتـتبع حقوقنا، وإنما العبرة بأن نـتـلبس بما أمرنا الله عز وجل به، هذا خيـر ما يتدارسه المسلمون بينهم. أما أن يعدِّدوا قوة عدوهم، فيقال لهم: هل يغلب اللهَ قوةٌ ما؟

العدة الإيمانية والعدة المادية
والشرطان الّذان أريد أن أذكرهما إجمالا:
الأول: ما سمعتم، قوة الإيمان، وتقوى الله عز وجل.
والشرط الثاني: العُدة المادية، من عدة بشرية، وعدة عسكرية، لأن الله تعالى قال : {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم}
فأيما قوة تكون لدى المسلمين لا يرهبها العدو، فليست بقوة شرعا.
وهذه الفائدة القرآنية استفدتها من شيخي العلامة المجاهد ربيع بن هادي المدخلي حفظه الله.
وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم معنى القوة المذكورة في الآية، فقال: " ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي" رواه مسلم.
فخص الله عز وجل الخيل بالذكر لأنها أحسن ما يقاتل عليه يومئذ، وخص رسول الله صلى الله عليه وسلم الرمي بالذكر لأنه أقوى ما يقاتل به يومئذ، تنبيها للمسلمين على أن الإعداد هو ما كان على مستوى أرقى ما لدى العدو.
وهذه الفائدة الحديثية استفدتها من شيخي العلامة حماد بن محمد الأنصاري رحمه الله.
وضابط العدة البشرية أن يكون عددُ المقاتلين الكفار على الضعف من عدد المقاتلين المسلمين، فإن زادوا على ذلك لم يجب على المسلمين دخول المعركة، وقد كان الله أوجب عليهم في أول الأمر أن يُقاتلوا الكفار، ولو كان هؤلاء عشرة أضعافهم، ثم نسخ ذلك إلى الضعف، قال الله تعالى: (( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ * الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ )) [سورة الأنفال: 65-66].
فكيف يأتي اليوم من اجتمع لديه ألفٌ أو ألفان أو عشرة آلاف يواجه بهم مليون مقاتل، ومن تخلف عنه فهو عندهم ضعيف الإيمان أو منافقٌ أو مرتدٌ؟!

العدة الإيمانية أسبق
 إنني أريد أن أنبه إخواني على أن البدء بتحقيق العدة الأولى، - أعني العدة الإيمانية - هو الأصل، وهذا أولى ما ينبغي أن يهتم به المسلمون، لأنها سابقة لتلك.
ألا ترى كيف نهى الله المؤمنين في أول الأمر عن التوجه العسكري وأمرهم بالتوجه التعبدي فقال: (( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ )) [سورة النساء:77]، فأمرهم الله عز وجل إبان نزول آيات التوحيد وتحقيق حقوق التوحيد، وهي الصلاة والزكاة، فالصلاة ما بين العبد وربه، والزكاة ما بين العبد وأخية.
ولا معنى لقوة مادية إذا أقـفرت القلوب من تقوى الله عز وجل، وقد قيل : إنما السيف بضاربه.
ولا يقولن قائل: إن المسلمين اليوم كثيرٌ، لأنه لا معنى لثروة بشرية لا تُزكيها أعمالها، فقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الإسلام لا يُنصرُ بالغثاء، فقد صح في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها )). فقال قائل: ومن ثلة نحن يومئذ؟ قال: ((بل أنتم يومئذٍ كثير، لكنكم غُثاءٌ كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن )). فقال قائل: يا رسول الله! ما الوهن؟ قال (( حب الدنيا وكراهية الموت )).

كونوا أولياء الله تنصروا
لو لم يكن المسلمون بمثابة الغثاء، وإنما كانوا أصحاب إيمان حقيقةً، فاهتبل الشيطان غفلتهم البشرية، وحرك من أنفسهم العجب بكثرتهم، لم يحالفهم النصر كما حصل ذلك لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين، حتى قال الله تعالى: (( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ )) [سورة التوبة:25].
وهذا درسٌ بليغ، وحجة دامغة لمن يهتمون بالتجميع وصفوفهم مهزوزة بالخلاف العقدي والتمزق الطائفي البدعي، فإن الحديث السابق قد بين بنصه أن فساد القلوب - التي هي المحل الأصلي للعقيدة - بحب الدنيا وكراهية الموت يحرم أهلها من رهبة عدوها منها، فكيف بالنصر؟!
وأما الآية الأخيرة، فقد بينت أن الذين حققوا الإيمان، لكنهم غفلوا لحظة من جهادهم غفلة ما عن ربهم فمنوا بالهزيمة، ولولا  أن الله عز وجل رأى منهم الصدق في المبدأ والأوبة في المنتهى لطال الأمر، ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولا.
فكيف يطمع في النصر من استدام الغفلة عن الله، بل استثقل الحديث عن التوحيد الذي هو حق الله، بل استحل الخروج عن عقيدة السلف، وركن إلى فلسفة من خلف؟!
ونقول لمن يكره هذه اللغة، ويحسبها تثبيطاً: مهلاً مهلاً، فإن غثائيتكم - ولو كانت حركية - لا تزيد المسلمين إلا وهناً وهناً!
والأغرب في هذا أن الذين يرون أنفسهم مهمومين بالقضية الإسلامية دون غيرهم إذا سُئلوا عن عقيدة من يدعمون ممن يسمونهم ( مجاهدين!)، قالوا: ليس الوقت وقت السؤال عن هذا، لأنهم - حسب فلسفتهم الميكيافيلية - يذحبون وأنتم تسألون عن تدينهم؟!! ولم ينتبهوا إلى أن الله سلط عليهم من يذبحهم بسبب ذنوبهم، ولو كانوا صالحين لتولاهم ربهم، وما تركهم نهباً لعدوه وعدوهم، ففي القرآن: (( إِنَّ وَلِيِّـيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ  )) [سورة الأعراف: 169].
وهذا الجواب الذي يجتره الحركيون على بكرة أبيهم أضحى عندهم - على اختلافهم - كالإرث المشاع، وترك المسلمين قصاعاً بين جياع، ولا يكادون يدخلون معركة اليوم إلا خرجوا منها مهزومين، وأكدوا للكفار أن لا ناصر للمسلمين، فلم يشك الكفار أن دين الإسلام كذب، فأي جناية على الإسلام والمسلمين أعظم من هذه؟!

سبيل الولاية بالرجوع إلى الدين الصحيح
إذا كان حديث ثوبان السابق قد شخص الداء، فإن في حديث ابن عمر الآتي وصفاً وافياً للدواء، فعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتهم بالزرع، واتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم )) رواه أحمد وأبو داود وهو حسنٌ.
وها هنا فائدتان:
الأولى: أن هذا الحديث لم يخرج بتفصيلة للأدواء عما في حديث ثوبان، لأن قوله صلى الله عليه وسلم: (( إذا تبايعتم بالعينة )) إلى قوله: (( واتبعتم أذناب البقر )) هو تفصيل لقوله المجمل: (( حب الدنيا ))، وقوله صلى الله عليه وسلم: (( تركتم الجهاد )) هو المسبب عن قوله صلى الله عليه وسلم: (( كراهية الموت ))، فتأمل لفظ الحديثي، فقد خرجا من مشكاةٍ واحدة.
الثانية: أن الناس قد اختلفوا في معالجة هذه الأدواء المذكورة، فمنهم من يرى الحل السياسي، ومنهم من يرى الحل الدموي، ومنهم من يرى الحل الحضاري، ومنهم.. ومنهم... وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فيرى الحل الديني الدعوي التربوي، لأن الناس إذا تدينوا بدين الحق، وعملوا بسنة سيد الخلق، صلح أمرهم جميعاً، وأما إذا تخلفوا عن الرجوع إلى دينهم، فإنه حريٌ بهم أن يجبنوا عن تحقيق بقية الحلول، ولذلك كان أهل السنة السلفيون أولى الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم وأسعدهم بدعوته، لما يدأبون عليه من تعليم الناس الهدى والصبر على ذلك، حتى يريهم الله من قومهم استجابة غالبة: ((وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ  )) [سورة الروم: 4-5]، وأما إن لم يستجب لهم، لا سيما في دعوة التوحيد، فإنهم صابرون على هذا الطريق لا ينحرفون عنه حتى يلقوا الله على الربانية التي قال الله فيها: (( وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ  )) [سورة آل عمران 79].
ولهذا لم يصح اجتهاد أصحاب الحلول السياسية أو الدموية أو الحضارية أو غيرها، مع قوله صلى الله عليه وسلم الصريح: (( حتى ترجعوا إلى دينكم ))، ولا سبيل إلى الرجوع إلى الدين إلا بتعلمه، فعاد الأمر إلى التعليم، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إنما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم )) رواه البخاري في الأدب المفرد وهو صحيح.
وأعظم شيء يعدّه المؤمنون ليتقووا على عدوهم، أن يتصلوا بالله، توحيدا، محبة، رجاء، خوفا، إنابة، تخشعا، وقوفا بين يديه، استغناء عما سواه، قال الله تعالى: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليـبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا}
فهل انـتبه المسلمون لهذا الشرط العظيم {يعبدونني لا يشركون بي شيئا
وهل يرشح للنصر من يعلق أمله بحجر؟
هل يرشح للنصر من يستغيث بميت من البشر؟
هل يرشح للنصر من يسجد عند قبر؟
هل يرشح للنصر من يطوف بمشهد رجل صالح؟
هل يرشح للنصر من يجعل سره وعلانيته بيد وليّ، أو يقسم بـنـبـيّ؟
كل هؤلاء لا يرشحون للنصر، وكل هؤلاء فينا منهم الكثير.
لقد روى الإمام أحمد بسند صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " بشر هذه الأمة بالسناء والدين، والرفعة والنصر والتمكن في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا، لم يكن له في الآخرة من نصيب".
فالتبشير حاصل، والوعد محقق ولا ريب، لكن تأملوا شرط الإخلاص في قوله: " فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا " أي هو في صفة عمله عمل حسن، لكنه أراد به هذه الدنيا ومتاعها الرخيص، فلذلك لا ينصر، فكيف بمن عمله بغير عمل الآخرة، أي بغير طاعة الله عز وجل.
لقد خرج عصبةُ المؤمنين أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في غزوة حنين، وكان منهم رجال جدد في الإسلام، فرأوا أن المشركين يعلقون أسلحتهم بشجرة يقال لها ذات أنواط، يطلبون منها البركة - كما يفعل كثير من جهال المسلمين اليوم، الذين فقدوا الله، وضيعوه، فلجأوا إلى خلقه - فقال هؤلاء الضعفة - وكانوا حديثي عهد بالجاهلية والشرك- قالوا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط.
فقال عليه الصلاة والسلام: " الله أكبر - وفي رواية: سبحان الله - إنها السنن، لقد قلتم والذي نفسي بيده، كما قال قوم موسى لموسى: (( اجعل لنا إلها كما لهم آلهة )) " رواه أحمد وهو صحيح.
تأملوا هذا الحديث، ما أعظمَه، لم يمنع النـبـيَّ صلى الله عليه وسلم جدةُ إسلامهم، من أن ينكر عليهم كلمة شرك، ولم يمنع النـبـيَّ صلى الله عليه وسلم كونُه خارجا بهذه العصبة الطـيـبة لمجاهدة الكفار الخلَّص، أن يسكت عن خطأ منهم عقديّ، لأنه لو سكت عنه لـتـعـثر الجهاد، وأصابه ما الله به عليم.
فلا يجوز أبدا أن يُسكتَ عن حق الله في أن يعبد وحده، هذا شرط عظيم.
وما دامت الأمة لم تـنـتبه إلى تحقيق التوحيد، وما دام يُسْكتُ عن العجائز وكبار السن، بل وعن كثير من المثقفين، الذين يتعلقون بكذب ساحر، أو خبـر كاهن، أو يتعلقون بآمال ضائعة عند مشهد قبر صالح، أو غير ذلك من الشركيات المعلومة اليوم، فلا يمكن لهذه الأمة أن تنشد نصرا، أو أن تطلب مجدا.
وإذا كانت هذه هي شدة الرسول صلى الله عليه وسلم وغضبه في الله على من طلب مجرد التشبه بمن يعلق سلاحه بشجرةٍ دون أن يعبدها أو يدعوها، فكيف يكون غضبه على من يستنصر بصاحب قبرٍ، أو يحمل معه شيئاً من ترابه أو آثاره طلباً للظفر، قال ابن القيم رحمه الله في إغاثة اللهفان [2/205]: " فإذا كان اتخاذ هذه الشجرة لتعليق الأسلحة والعكوف حولها اتخاذ إلهٍ مع الله تعالى، مع أنهم لا يعبدونها ولا يسألونها، فما الظن بالعكوف حول القبر، والدعاء به، ودعائه، والدعاء عنده؟!
فأي نسبةٍ للفتنة بشجرةٍ إلى الفتنة بالقبر لو كان أهل الشرك والبدعة يعلمون ؟! ".
قلت: ولا يزال الناس يذكرون من كان لا يخرج لقتال الشيوعيين حتى يتوسط إلى الله بصاحب قبرٍ، وإلى الله المشتكى!

ابن تيمية يعلم الناس التوحيد في جهادٍ دفاعي

لما داهم التتار أهل الشام، خرج المسلمون لمواجهتهم، وكانت فيهم شركيات، فجعل ابن تيمية رحمه الله يصحح عقيدتهم ويدعوهم إلى التوحيد، كما قال في رده على البكري المطبوع باسم " تخليص كتاب الاستغاثة " [2/731-738: تحقيق عجال]: " وكان بعض الأكابر من الشيوخ العارفين من أصحابنا يقول: هذا أعظم ما بينته لنا، لعلمه بأن هذا أصل الدين، وكان هذا أمثاله في ناحيةٍ أخرى يدعون الأموات، ويسألونهم، ويستجيرون بهم، ويتضرعون إليهم، وربما كان ما يفعلونه بالأموات أعظم، لأنهم إنما يقصدون الميت في ضرورةٍ نزلت بهم، فيدعونه دعاء المضطر، راجين قضاء حاجتهم بدعائه والدعاء به أو الدعاء عند قبره، بخلاف عبادتهم الله تعالى ودعائهم إياه، فإنهم يفعلونه في كثير من الأوقات على وجه العادة والتكلف، حتى إن العدو الخارج عن شريعة الإسلام لما قدم دمشق خرجوا يستغيثون بالموتى عند القبور التي يرجون عندها كشف ضرهم، وقال بعض الشعراء:
يا خائفين من التتر ** لوذوا بقبر أبي عُمر
أو قال:
عوذوا بقبر أبي عمر ** ينجيكم من الضرر ".
قلت: ولعل القارئ قد انتبه إلى أن هذا كان في جهاد الدفع لا جهاد الطلب، وفي هذا ردٌ صريحٌ على الذين لا يهتمون بتصحيح العقيدة عند هذا النوع من الجهاد، ويزعمون أن هذا خاص بجهاد الطلب، والله الموفق.

لو كان الصالحون في جيشٍ فيه شركيات لانزهموا
قال ابن تيميه بعد كلامه السابق: " فقلت لهم: هؤلاء الذين تستغيثون بهم لو كانوا معكم في القتال لانهزموا كما نهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد، فإنه كان قد قضى أن العسكر ينكسر لأسباب اقتضت ذلك ولحكمةٍ لله عز وجل في ذلك ".

من ترك القتال بسبب البدع والشرك
ثم قال رحمه الله بعد كلامه السابق: " ولهذا كان أهل المعرفة بالدين والمكاشفة لم يقاتلوا في تلك المرة، لعدم القتال الشرعي الذي أمر الله به ورسوله، ولما يحصل في ذلك من الشر والفساد وانتفاء النصرة المطلوبة من القتال، فلا يكون فيه ثواب الدنيا ولا ثواب الآخرة لمن عرف هذا وهذا، وإن كثيرا من القائلين الذين اعتقدوا هذا قتالاً شرعياً أُجروا على نياتهم، فلما كان بعد ذلك جعلنا نأمر الناس بإخلاص الدين لله عز وجل، والاستغاثة به، وأنهم لا يستغيثون إلا إياه، لا يستغيثون بملكٍ مقرب ولا نبي مرسل، كما قال تعالى يوم بدر: (( إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم )) [الأنفال:9]، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوم بدر يقول: (( يا حي، يا قيوم، لا إله إلا أنت، برحمتك أستغيث ))، وفي لفظ: (( أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين، ولا إلى أحد من خلقك )).
قلت: رحمه الله رحمة واسعة، فقد روى ابن بطة في الإبانة / القدر [رقم:1848] أن عمر بن عبد العزيز قال: " لا تغزوا مع القدرية، فإنهم لا يُنصرون ".

انتصار المسلمين على التتار بعد أن صححوا عقيدتهم واتبعوا الرسول
ثم قال رحمه الله بعد كلامه السابق:
" فلما أصلح الناس أمورهم وصدقوا في الاستغاثة بربهم نصرهم على عدوهم نصراً عزيزاً، ولم تُهزم التتار مثل هذه الهزيمة قبل ذلك أصلاً، لما صح من تحقيق توحيد الله تعالى وطاعة رسوله ما لم يكن قبل ذلك، فإن الله تعالى ينصر رسوله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ".
قلت: فدل هذا على أنه لا تمكين في الأرض حتى يتمكن الدين الصحيح من النفوس، ومصداقه في كتاب الله قوله تعالى: (( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقومٍ سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال )) [الرعد:11].
وتأمل قول ابن تيميه رحمه الله: " تحقيق توحيد الله تعالى وطاعة رسوله.. " تفهم سبب اشتراط العلماء التوحيد لله تعالى والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل تحقيق النصر، وأنه لا يغمض عينيه عن هذين الشرطين إلا ( ميكيافيلي ) قد أشرب قلبه القاعدة اليهودية: الغاية تبرر الوسيلة، والله العاصم.
هذا أول ما أذكر به إخواني، والله نسأل أن يشرح صدورنا بالتوحيد، وأن يهدينا إلى صراطه المستقيم.

حرمان النصر في مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم
لا يذهبـنّ الوهمُ بأحدكم إلى أن يقول: مهما كان فينا من عيوب، فإن أعداءنا كفار وظلمة ومعاندون ومستكبرون عن الحق.
لا يذهبـنّ بكم الوهمُ إلى قاعدة الحسنات والسيئات، والموازنة بينهما، لأن الله تبارك وتعالى أرانا في خير هذه الأمة وصفوتها في رعيلها الأول، شيئا من مظاهر الانكسار والضعف والهزيمة، وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أنهم كانوا يواجهون أعتـى وأكفر خلق الله يومئذ.
ولعلكم لا تنسون غزوةَ أحد، حيث أمر النبي صلى الله عليه الرماة أن لا يغادروا أماكنهم، وقال لهم كما عند البخاري و أبي داود: " لا تبرحوا وإن رأيتمونا ظهرنا عليهم – أي انتصرنا عليهم- فلا تبرحوا وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا " وفي رواية: " إن رأيتمونا تَخَطّفنا الطير – أي انهزمنا هزيمة نكراء – فلا تبرحوا من مكانكم "
فلما رأى المسلمون أنهم انـتـصروا، والغنائم العظيمة بين أيديهم، وأعينهم ترمقها، وأنفسهم ترنو إليها، ترك جمع منهم أماكنهم، يريدون الوصول إليها (فأخذوا يقولون: الغنيمة، الغنيمة. فقال لهم أميرهم عبد الله بن جبـيـر: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: والله لنأتينّ الناس، فلنصيبنّ من الغنيمة. فأتوهم فصرفت وجوههم – أي أنهم ضيعوا الاتجاه الذي يريدونه – وأقبلوا منهزمين، فأصيب سبعون قتيلا )، حتى دار عليهم عدوهم، وتركهم الله عز وجل ينكشفون بين أيديهم لمجرد مخالفة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، بمجرد مخالفة لأمره عليه الصلاة والسلام.
وهم الذين نصر الله تعالى بهم هذا الدين، فتركوا أماكنهم، فترك الله ولاءهم في تلك اللحظة، فضاعوا رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، لولا أن كتب الله لهم النصر بعد ذلك.
فتأملوا هذا، قال الله تعالى: {أولما أصابتكم مصيـبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير}
وقال: {وما أصابك من سيئة فمن نفسك} فمصيـبة المرء من نفسه، فليعالجها، فإن الله تعالى معه ما اتـقاه، كما قال سبحانه: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون}
هذا هو الشرط الثاني في عُدة الإيمان، ألا وهو متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم حق المتابعة.

الشرط الأول: أذكركم به، التوحيد من غير إشراك.

الشرط الثاني: متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم من غير ابتداع ولا معصية.
وقد جمعها الله عز وجل في آيةٍ واحدةٍ من آيات الجهاد، ألا وهي قوله تعالى: (( يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين )) [الأنفال: 64]، أي أن الله معك ومع المسلمين الذين اجتمع فيهم الشرطان الإيمان والمتابعة ((ومن اتبعك من المؤمنين ))، وقد بسط القول على هذه الآية ابن تيمية في منهاج السنة [8/487-488] فارجع إليه فإنه نفيس!
فإذا كان عامة المسلمين على هذين الوصفين فلن يؤخر الله عنهم النصر، ولا يتخلف عنهم النصر أبدا، لأن الله قال: {وعد الله لا يخلف الله وعده}
وكيف كان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم يـنـتصرون على أعدائهم؟ مع أنهم بشر، يخطئون كما يخطئ غيرهم.
فقد روى ابن حبان وغيره عن أبي المُصَبِّح قال: بينا نحن نسير بأرض الروم في طائفة عليها مالك بن عبد الله الـخـثعمي، إذ مرّ مالك بجابر بن عبد الله وهو يمشي يقود بغلا له، فقال له مالك: أي أبا عبد الله، اركب فقد حملك الله.
فقال جابر: أُصلحُ دابتـي واستغنـي عن قومي، وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من اغبـرّت قدماه في سبيل الله حرّمه الله على النار ".
فأعجب مالكا قولُه، فسار حتى إذا كان حيث يسمعه الصوت ناداه بأعلى صوته: يا أبا عبد الله، اركب فقد حملك الله.
فعرف جابر الذي يريد ( فهم جابر أن مالكا يريد إسماع بقية الجيش ) فرفع صوته فقال: أصلح دابتـي، واستغنـي عن قومي، وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من اغـبـرّت قدماه في سبيل الله حرّمه الله على النار " فـتواثب الناس عن دوابهم، فما رأيت يوما أكثر ماشيا منه " صححه الألباني في الإرواء حديث رقم 1183 .
سبحان الله، متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى في غبار الأرض، هكذا نصر الله تلك الأمة.
إذن ينبغي لهذه الأمة أن تـنـتـبه إلى أن القضية ليست قضية كثرة عدد، ولا تجميع على غيـر هدى، هذا يقدر عليه كثير من الأذكياء غير الأزكياء، لكن العبرة بتربية أمة على توحيد خالص لله، وعلى متابعة مجردة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قاعدة الموازنه بين الحسنات والسيئات
من الغريب ان الله تعالى يقول :(إن الله مع الذين اتقوا ) { النحل 128} , وبعض الناس يريد ‘لغاء شرط التقوى , ويقول : مهما كان في المسلمين من تقصير فهم منصورون ؛ لأن عدوهم شر منهم , فهو شيوعي أو علماني , أو صهيوني , أو صليبي حاقد ...!!! 
وهكذا تعمل قاعدة الموازنات عملها السيئ في الامه , حتى تذرهم ينسجون خيوطا من اوهام الامجاد والعز , وكأنهم يريدون حذف تلك الآيات من المصحف , بل كانهم يريدون ان ياصموا ربهم ؛ إذ لم يعمل ههنا بقاعدة الموازنات , التي مقتضاها أن ينصر المسلمين دائما ؛ ما دام الكفار شرا منهم بلا شك !!
روى الإمام أبو نعيم في الحلية [5/303] من طريق ابن المبارك، عن مسلمة بن أبي بكر، عن رجل من قريش: " أن عمر بن عبد العزيز عهد إلى بعض عماله:
عليك بتقوى الله في كل حال ينزل بك، فإن تقوى الله أفضل العدة، وأبلغ المكيدة، وأقوى القوة، ولا تكن في شئ من عداوة عدوك أشد احتراساً لنفسك ومن معك من معاصي الله، فإن الذنوب أخوف عندي على الناس من مكيدة عدوهم، وإنما نعادي عدونا، ونستنصر عليهم بمعصيتهم، ولولا ذلك لم تكن لنا قوة بهم، لأن عددنا ليس كعددهم، ولا قوتنا كقوتهم، فإن لا ننصر عليهم بمقتنا لا نغلبهم بقوتنا.
ولا تكونن لعداوة أحدٍ من الناس أحذر منكم لذنوبكم، ولا أشد تعاهداً منكم لذنوبكم، واعلموا أن عليكم ملائكة الله حفظةٌ عليكم، يعلمون ما تفعلون في مسيركم ومنازلكم، فاستحيوا منهم، وأحسنوا صحابتهم، ولا تؤذوهم بمعاصي الله، وأنتم زعمتم في سبيل الله.
ولا تقولوا إن عدونا شرٌ منا، ولن يُنصروا علينا وإن أذنبنا، فكم من قوم قد سُلط – أو سُخط – عليهم بأشر منهم لذنوبهم، وسلوا الله العون على أنفسكم، كما تسألونه العون على عدوكم، نسأل الله ذلك لنا ولكم.
وارفق بمن معك في مسيرهم، فلا تجشمهم مسيراً يتعبهم، ولا تقصر بهم عن منزل يرفق بهم، حتى يلقوا عدوهم والسفر لم ينقص قوتهم ولا كراعهم، فإنكم تسيرون إلى عدو مقيم، جام الأنفس والكراع، وإلا ترفقوا بأنفسكم وكراعكم في مسيركم يكن لعدوكم فضل في القوة عليكم في إقامتهم في جمام الأنفس والكراع، والله المستعان.
أقم بمن معك في كل جمعة يوماً وليلة لتكون لهم راحة يجمون بها أنفسهم وكراعهم، ويرمون أسلحتهم وأمتعتهم، ونح منزلك عن قرى الصلح، ولا يدخلها أحد من أصحابك لسوقهم وحاجتهم، إلا من تثق به وتأمنه على نفسه ودينه، فلا يصيبوا فيها ظلماً، ولا يتزودوا منها إثما، ولا يرزؤون أحداً من أهلها شيئاً إلا بحق، فإن لهم حرمةً وذمةً ابتليتم بالوفاء بها كما ابتلوا بالصبر عليها، فلا تستنصروا على أهل الحرب بظلم أهل الصلح.
ولتكن عيونك من العرب ممن تطمئن إلى نصحه من أهل الأرض، فإن الكذوب لا ينفعك خبره وإن صدق في بعضه، وإن الغاش عينٌ عليك وليس بعينٍ لك ".
قلت: بهذه الخطبة البديعة بين عمر بن عبد العزيز رحمه الله خطورة هذه القاعدة، لأنها تعمل على وأد النقد الذاتي وحرمان المسلمين من محاسبة أنفسهم، فكيف بالاطلاع على عيوبهم، إذا لا يزال أهلها يشعرون بأنهم أتوا من قبل عتو عدوهم، لا من قبل أنفسهم.
ومن ثم يتبرع (( للمجاهدين )) بقداسة تشبه العصمة، ومن جاء يصحح صاحوا فيه: مثبط! مثبط!
ومن جاء ينتقد حاصوا منه وأسروا مجمعين: عميل! عميل!
ولهذا كان قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله السابق: " ولا تقولوا إن عدونا شر منا .. " حجةً قويةً لإسقاط هذه القاعدة الغوية، ولا يزال المسلمون يقرؤون القرآن، فيجدون الله يعلق النصر على التقوى والصبر والصلاح، كمثل قوله تعالى: (( وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً )) [آل عمران:120]، وقوله: (( بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين ))[آل عمران:125]، وقوله: (( وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور )) [آل عمران:186].
وإذا كان هؤلاء يوجبون على المسلمين أن يؤيدوا كل الثورات المزعوم أنها إسلامية، بحجة الولاء للمسلمين والبراء من الكافرين، فهل يجرؤون على أن يوجبوا على الله أن ينصر المسلمين على ما فيهم، وأن يلغي شرط التقوى والإخلاص والمتابعة؟
وإذا كانوا يشنعون على أهل السنة محاسبتهم الناس في عقيدتهم، فهل يفعلون هذا مع ربهم الذي لم يسكت قط عن محاسبة المجاهدين في أدنى الأخطاء؟
ففي غزوة بدر رأى النبي صلى الله عليه وسلم مفاداة الأسرى دون قتلهم، ذلك قبل تشريعها، فنزل قوله تعالى: (( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يُثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم لولا كتابٌ من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم )) [الأنفال:67-68].
وقد عد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما وقع في هذه القصة أحد سببي هزيمة المسلمين يوم أحد كما في مسند أحمد وصحيح مسلم، فقال: " لما كان يوم أحد من العام المقبل، عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء، فقتل منهم سبعون، وفر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه، وكُسرت رُباعيته، وهُشمت البيضة على رأسه، وسال الدم على وجهه.. ".
ومذهب المزانة بين الحسنات والسيئات معناه عند مخترعيه في هذه الأيام: النظر في أحوال الرجل المراد انتقاده، ثم ذكر حسناته إلى جنب سيئاته، وزعم أصحابه أن الإنصاف لا يتم إلا بهذا، فطعنوا بهذه القاعدة الغريبة في السلف الصالح من الفقهاء والمحدثين، الذين لا يزالون يجرحون من يستحق التجريح دون تعرضٍ لذكر حسناته، ولا يرون ذلك لازماً لهم.
بل قرأت لبعضهم دعوى أنه لا يجوز ذكر مبتدعٍ بما عليه إلا بذكر ما له، بل سمعت بعضهم وقرأت لآخرين دعوى أن يجب تطبيق هذه القاعدة حتى مع الكفار، وزعموا أن الله يذكر حسنات الكفار مقابل سيئاتهم لينصفهم! بل اشتطوا في الأمر حتى زعموا أن الله لم يكتف بذكر مساؤى الخمر والميسر حتى ذكر حسناتهما فقال: (( قل فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافع للناس..))، الآية [البقرة:219]!!
وهذه القاعدة ما وضعوها إلا لحماية البدع وأهلها  وذلك أن بعض المنتسبين إلى السنة تربوا بين أحضان أهل البدع، حتى إذا أحبتهم قلوبهم وأشربت بعض بدعهم، ثم جاءت سهام السنة ترفع اللثام عن دعوات متبوعيهم، قالوا: لا تنسوا حسناتهم!
وبهذا التميع لم يبق صاحب بدعة إلا ستروه، حتى الرافضي، اللهم إلا حركيي جزئرة العرب، فإن منهم من استثنى الروافض! على أنهم إذا انتقوا أهل السنة السلفيين لم يراعوا لهم ذمة، ولا عرفوا لهم حسنة!!
وكان من مساؤى هذه القاعدة تأييد جميع الثورات المزعوم أنها إسلامية، بزعم أن الذين يواجهونهم كفارٌ أو علمانيون، ولم يراعوا في ذلك شروط الجهاد، ولم يتبينوا حال المزعوم أنهم مجاهدون، بل يكفي عندهم رفع راية الإسلام، أي إسلام!!
ويا ويح من يسأل عن عقيدة هؤلاء، فإن هذا ليس وقته عندهم!
أما أن يسأل عن اتباعهم للسنة وعملهم بالحديث، فهذا أبعد من أن يتباحثوه!!
ومسألة الموازنة هذه فندها أهل العلم وخير من كتب فيها – فيما علمت – العلامة ربيع بن هادي المدخلي في كتاب (( منهج أهل السنة والجماعة في نقد الكتب والطوائف والرجال ))، فارجع إليه فإنه نفيس!

الخلاصة
يجب على المسلمين أن يحققوا لدرك عزهم شرطين في أنفسهم:
الأول: هو الإعداد الإيماني.
والثاني: الإعداد المادي.
القسم الأول: هو إخلاص الدين لله.
والقسم الثاني: هو تجريد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونستفيد من غزوة حنين أن المقاتلين إذا كانوا على سلامة المعتقد وصدق الالتزام بالسنة، ثم ظهر منهم شئٌ من العجب – والعجب قد يصل إلى القلب فيفسد إخلاصه – حُرموا النصر، فكيف إذا كانوا على معتقد غير سليم من أصلهم؟!
ونستفيد من غزوة أحد أن المقاتلين إذا كانوا على معتقدٍ سليم وصدق الالتزام بالسنة، ثم خالفوا الرسول صلى الله عليه وسلم حُرموا النصر، فكيف إذا كانوا مفارقين للسنة من أصلهم، منتسبين إلى طائفةٍ مبتدعة من نشأتهم؟!
فهذا في المتابعة، وذاك في التوحيد، وقد عاقب الله كلا الطائفتين، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم وصالح المؤمنين كانوا معهم يقاتلون، ومع أن مخالفتهم لم تنقض المتابعة ولا التوحيد، فاعتبروا يا أولي الأبصار!
هذا ونسأل الله عز وجل أن يشرح صدورنا للحق، وأن يهدينا سواء السبيل، وأن يجمع شـملنا، وأن يرأب الصدع الذي بيننا، وأن يوفقنا لطاعته، وحسن عبادته، ولذكره، وأن يجمع كلمة المسلمين على ما يحب ويرضى.
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه.
{ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين}
{ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار. ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار. ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد}
{ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم}
{ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم}
اللهم انصر الإسلام والمسلمين، واجعل الدائرة السيئة على عدوك وعدوهم.
هذا، واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم